عشت أياماً زاخمة بالأحداث التي لم يستوعب ذهني استقبالها بهذا النهج المتسارع منذ بداية ثورة شباب 25 يناير وحتى نهايتها بالنصر المظفر، وسيأتي وقت لأسرد فيه بعض الأحداث التي عايشتها لكن هنا أحاول أن أرى بمنظوري بعضاً من الأمور التي علمتني إياها تلك الثورة المجيدة.
1- وحدة الهدف علاج للأمراض المستعصية المجتمعية
من عاش إنطلاقة تلك الحركة النبيلة التي لم تكن في بدايتها -ثورة- بالمعنى الفعلي ولم يعتبرها كذلك قيادتها أو أي من المشاركين الذين نزلوا في اليوم الأول والثاني من الاحتجاجات يعرف جيداً أنه وجد أخلاق جديدة يتعامل بها الشعب المصري، سواء قبل الوصول لميدان التحرير أو بعد الوصول إليه.
فوحدة الهداف والمشروع القومي الغائب منذ عقود عن المصريين كان كفيلاً بأن ينسى المصري مصاعب العيش وكل كوابيس الماضي بالنسبة له ويترفع عن الطائفية والوعظ السلبي وأخلاقيات الشارع لنجد شعباً جديداً في ميدان التحرير، يبتسم في وجهك ويعتذر لك في حالة اصطدم بك أو قام بتفتيشك عند مداخل الميدان، وتجد تبادل النكات وتوزيع الماء أو العصائر والساندوتشات بين الحينة والآخر لتصبير أنفسهم ودفع كل واحد منهم الآخر للبقاء صامداً وإكمال المشوار لنهايته، فأصبح الواحد يعمل من أجل المجموعة وهو يعرف أن المجموعة تعمل من أجله فتم خلق أو رسم لوحة جميلة للمجتمع النبيل المتآلف.
من أهم ما أرى أن هذه الثورة قد انجزته هو أن كل فرد أخذ بزمام نفسه وبدأ يقوم بمراجعة شاملة عل حياته السابقة وما ارتكب فيها من أخطاء في حق نفسه أو الغير، فظهرت روح جديدة بين المسلم والمسيحي وضحت بشدة من خلال الهتافات التي كانت تؤكد على وحدة عنصري الأمة، وعرف كل فريق منهما أنه لا استغناء عن الآخر ولا يمكن الاستسلام لروح التعصب والفرقة فكليهما في دائرة واحدة اسمها الوطن، رأيت دموع وحسرات بعض الرجال المتقدمين بالسن والشيوخ على ما فاتهم وربما عزاء لأنفسهم وسعادة بأنهم لحقوا ثورة الشباب تلك حتى لو كانوا قد تمنوا أن تحدث في أجيالهم والحقبة التي كانوا فيها شبابا.
ونرى قمة النضج في مراجعة النفس بعد انتهاء الثورة بقيام بعض الشباب بدعوات لعدم إلقاء القمامة في الشارع أو كسر إشارة المرور أو معاكسة البنات وهو ما يعني أن الثورة لم تقم فقط لإسقاط العصابة السياسية الفاسدة أو لتحسين مستوى المعيشة فقط بل يمكن أن تكسب منها كنز أخلاقي جديد بالمجتمع المصري.
3- نجوم المجتمع و ورقة التوت
عرفنا أيضاً من خلال هذه الثورة النبيلة بعض الطبقات التي خذلت شعبها وأهمها طبقة لاعبي الكرة وبدرجة أقل طبقة الفنانين بدورها السلبي والمُحبط وربما في بعض الأحيان الجارح في وصف المتظاهرين والثوار المطالبين بحقوقهم وربما حقوق غيرهم وجعلوا نفسهم فدءاً لإصلاح وتنظيف مجتمع قد فسد وعفن.
لكن قوبل هؤلاء الثوار بموجة من الهجوم المخجل من قبل بعض المطربين والممثلين بالإضافة للاعبين الكرة الذي قام البعض بالتصريح بأن المحتجين في الميدان هم مأجورين أو "مضحوك عليهم" واكتف البعض الآخر الذي كان منهم شخصيات كانت قدوة لفئة كبيرة من الشعب بالصمت والسكوت المحير.
إذن من أحرز الهدف في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الوطن لم تكن طبقات لاعبي الكرة ولا المطربين والممثلين ولا مقدمي البرامج التلفزيونية وهم نجوم المجتمع بل كانت طبقة من المثقفين والكتاب الشرفاء، الذين قام بعضهم دون أن يدري بغرس بعض من نواة تلك الثورة بالتوعية والتأكيد على مباديء الديمقراطية ومواجهة الفساد ومحاربة الطغيان على مدى سنوات من خلال مقالات أو كتب وهنا أتت دور الطبقة الواعية المثقفة سواء من كتاب أو جماهير عادية بالميدان لنقل الصورة الحقيقية لغير المتعلمين والطبقة الكادحة وتحريضهم على المطالبة بالحقوق بشكل سلمي ومتحضر فكان أمراً في غاية الروعة ويتمثل هذا أمام عيني عندما قامت بعض مجموعة صباح يوم "مجزرة الأربعاء" أو معركة الجمال التي قام بها البلطجية مدفوعين من أركان وحواشي النظام الفساد، فحضر في صباح هذا اليوم بعض الشباب والبنات العادي يهتفون للرئيس حسني مبارك ويقذفون المتظاهرين بوابل من الشتائم الخادشة للحياء والحركات المستفزة، ولكن ظلت هذه العشرات من الألوف متريثة و واقفة تشاهد ولا ترد ولا تحتك بهم، وكان قادة هذا المشهد الحضاري من جانب المتظاهرين هم الشباب الواعي الذي يعلم أهمية أن تبقى هذه الثورة بيضاء ليتحاكى عنها العالم بعد ذلك.
4- الإعلام ودوره الخطير
صدق الملايين من الشعب المصري تلك الألاعيب والمسلسلات الوضيعة التي تم حبكها خلال الأيام الأولى من هذه الثورة النبيلة من قبل التلفزيون المصري الذي لم يتواني عن التشكيك في وطنية وعقالة ورجحان المتظاهرين، و وصفهم بأنهم مدفوعين من الخارج ولهم أجندات وأهداف أخرى بقصد التربح من جهات أجنبية لخلق الفوضى في البلاد وهو ما صدقه الكثيرين للأسف في بداية هذه الثورة.
وبدأ الهجوم في الشارع، في القهاوي في البيوت وفي وسائل المواصلات على ثوار 25 يناير بأنهم شباب مُخرب أو فوضوي وسوف ينهي على هذه البلاد ويسحقها في حالة استمر في الاعتصام، وبعد أسبوعين فقط عرف الجميع من هؤلاء المتظاهرين وما أهدافهم، وعرف أنه لا يوجد مندسين أو حركات تريد أن تقود الثورة وتحصد هى ثمارها، اتضح لتلك الفئة المخدوع من الإعلام الخائن لشعبه أن تلك الثورة المجيدة لو كتب لها أن تفشل فكانت ستصبح بعدها البلاد خراباً حقيقاً وفساداً كبيراً في جسد هذه الأمة.
5- القدرة على الإنجاز
سيتمتع جيل ميدان التحرير بصفات جديدة ستساعدهم على المضي قدماً بالحياة بدون إحباط أو شك في إمكانية الوصول لهدفه على المستوى الشخصي، فأكاد أجزم أنه ولا فرد ممن نزل في يوم 25 يناير - أول يوم احتجاجات- كان يعتقد أنها ستصبح ثورة وأنها ستنتهي بتنحي الرئيس وإقامة إصلاحات سياسية وإجتماعية وإعلامية جذرية كما هو مطلوب الآن.
إذن فالفرد الآن أصبح يتحلى بثقة أكبر في القدرة على الإنجاز والوصول لمآربه الشخصية، أو القدرة على التأثير والمساهمة الإنتاجية أو المعرفية في مجتمعه وهنا تأتي أكبر مكاسب الثورة التي أعادت للمصري كبريائه وكرامته واعتزازه بتراب وطنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق