لا تعتبر أزمة الإنسان الحديث في أنه لا يجد الوقت الكافي لكي يلهو ويقضي أوقاتاً تروح عن نفسه وتبعث فيه الكثير من الأشياء بضغطة زر أو أن يعاود مشاهدة لحظات الماضي عبر هاتفه المحمول أو جهاز الكمبيوتر الشخصي، ربما يكون هناك القليل من الوقت لكن هناك الكثير من الوسائل التي يمكن أن يقضي بها بعض الساعات بعد أن يفرغ من عمله وتناسب ذوقه.
فبدلاً من التزاور مع الأصدقاء والاهل أو تبادل الحديث مع الجار فيمكن أن يستغنى عن هذا كله ويشاهد برنامجاً أو فيلماً، بل ويمكنه أن ينتقي الفيلم الذي يريد مشاهدته ويصل إليه عن طريق الأسطوانات-السيديهات- أو الإنترنت، أو أن يدخل عالم برامج المحادثة أو الفيس بوك فيتحادث مع شخصيات ربما وهمية وربما حقيقية لكنه لم يلتقي بها أو يعرفها.
ويبقى اتصاله الغير محسوس يقتطع ساعاته وينهي بها يومه، بعد أن الكتاب أو القراءة أو الحديث المباشر هو سيد هذه الأوقات، فحدث استبدال لطرق تحصيل معرفة جديدة، وهذا المارد التكنولوجي امتدت جذوره أول ما امتدت على جيلي وعلىّ شخصياً فأصبح الكثير من الوقت ملكاً لهذا المارد التكنولوجي، و امتد الأمر حتى أصبح مكاناً للعمل من خلال المواقع الألكترونية العملاقة حيث يمكنك أن تنهي عملك أو بحثك من خلاله ومستعيناً به بمئات وآلالاف المعلومات أو الأبحاث المجهزة سلفاً بدون أن تضيف عليه رؤيتك أو تحليلك الخاص وهذه تعد مصيبة من مصائب هذا المارد.
أعتقد أن كل هذه الوسائل رغم تسهيلها للأمور للنسبة العظمى من روادها لكنها أكلت الشق الإنساني وجعلته يتداعى بشكل كبير، ونفس الأمر ينطبق على الشق العلمي فلا أعتقد أن حصولك على بحثك أو وصولك لمعلومات من خلال شبكة الانترنت تحمل نفس القيمة التي يمكن أن تتحصل عليها من كتاب بعد جهد وبحث مضني، زد على ذلك أن الجهد الكبير الذي قمت به للحصول على المعلومة الورقية ستجعلك أكثر تركيزاً و اهتماماً بما وصلت له لتحاول أن تضيف له أسلوب التحليل و "النمذجة" من الواقع.
أما الشق الإنساني فلقد اختزلته، فأصبح يمكن للشخص أن يتكلم مع صديق له لم يراه لعدة شهوره ويكتفي بذلك، أو يتم الاكتفاء برسالة معايدة في المناسبات، أو تلتقط لنفسك ولأسرتك عشرات الصور على أجهزة المحمول بدلاً من الكاميرات والتخصص في التقاط مثل هذه اللحظات، حتى أصبح الشعب كله "مصوراً،، فعندما يحدث أي مشهد عجيب أو تكون هناك احتفالات يترك الجميع المشاركة فيه ويقوم بتصوير الاحتفال بالكاميرا البسيطة الملحوقة بجهاز تليفونه المحمول الخاص به.
و رغم ما لهذا المارد من قدرة وفائدة عظيمة في الجانب العملي وإنهاء الأعمال وحسمها خاصة بالشركات فإن مساوه أكبر وأشد فقد جعلت الإنسان أكثر "اغتراباً"، وأضحى التنافس على شراء أحدث أجهزة التليفون المحمول وأجهزة الكمبيوتر المزودة بالطبع بمواصفات خاصة للغاية لكى تلائم الألعاب الحديثة، وحتى إن لم يكن هذا واجباً لكي تعمل فمن باب التأمين و"البحر يحب الزيادة" وأن يحس المشتري بأنه مساير للعصر ومواكب للتقدم.
الأمر المثير هو اعلانات الدعايا لشركات المحمول التي تبهرك في البداية بعرض فكرة التواصل الدائم مع الغير مع موسيقى جميلة وصوت مطرب محبوب، ولا بأس من كلمات تعبر لداخلك وتلعب بمشاعرك وتطوحها يميناً ويساراً ثم تفاجأ بنهاية الإعلان بأنهم يبشروك بتخفيض ثمن الدقيقة أو عرض جديد للإكثار من الرسائل ولفترة محدودة.
أو يبدأ الإعلان بالحديث عن "المصريين" وثقافتهم في الحديث والتواصل بالشارع وكيف يعبرون عن مابداخلهم، ثم تفاجأ أيضاً مرة أخرى بأنه إعلان لإحدى شركات المحمول التي تؤكد لك أنها وجدت لتجعل حياتك أفضل وأيسر، نفس الأمر ينطبق على اعلانات شركات الأسمنت أو الحديد أو البنوك أو المدن الجديدة الخيالية التي لا يلتحق بها إلا المالتي مليونيرات ولكنها تظل طوال العام تطن في آذان الأفردا المطحونين- ايضاً بخلفية موسيقية جميلة وبتوصير فانتازي بديع للحياة-.
الأكيد أن هؤلاء المشاهدين اغلبهم لا يفكر باغتنام الفرصة وشراء وحجز فيلا بأقصى سرعة في تلك المدينة الجميلة الخضراء أو الاستثمار، بل يفكر بأمور أبسط بكثير تتعلق بدخله ومصاريف أسرته أو كيف يقضي ويأمن لأولاده حياة كريمة، ويأتي أولاده ليفكروا بتنيمة مهاراتهم للحصول على عمل - بعد أن يحصل على شهادة الجامعة-، ويبقى الطموح بفضل المارد الآخر - الصعود الإجتماعي- يزداد شيئاً فشيئاً بمرور الوقت، فتلك المشاريع الاستثمارية والمد الرأسمالي المتوحش تظل في دهن الشاب على أنها الغاية من حياته وأسمى ما يمكن أن يسمو إليه.
ويمر الوقت ليصل العنصر الشاب للإحباط بعد أن يكتشف كم التعقيدات والأمور المستحيلة التي يجب أن يجتازها، وتبدأ أحلامه تتقلص وطموحه يقل ويصبح فرداً أقصى ما يتمناه هو أن يفتح بيتاً ويستهلك بأي طريقة وبأي عمل يمكن أن يكفل له ذلك، فلا فائدة من الاهتمام أو شعور بقيمة عمله أو بإضافته الخاصة عليه، أو المشاركة والتعبير عن الأحداث السياسية إلا عبر الدردشات السريعة العابرة مع أصدقاء أو أقارب.
هكذا يتم تسيير و "نمذجة" الإنسان في قوالب محددة سلفاً، تجد الطموحات متشابهة والملابس متشابهه، الطعام متشابه رغم وجود عشرات المطاعم التي تفتح يومياً، الموسيقى واحدة رغم ظهور عشرات المطربين جدد في كل عام و انتشار شركات الإنتاج، ويزداد الإنسان "اغتراباً" و"اختصاراً".
في المقابل تزيد الآلات والخيارات أمامه فيكاد يرى من كل آلة أو صنف عشرات الانواع لعشرات الشركات، ويكفي أن تدخل لسوبر ماركت بغرض شراء "علبة جبن أبيض" مثلاً فتجد أمامك عشرات الأنواع والأسماء للجبن الأبيض وتحتار فيمن ستأخذه وبالنهاية تأخذ أي واحد منهم ليس اقتناعاً ولكن "اختصاراً"، فأنت في تلك النمذجة أو البرمجة "مُخير" لدرجة تتجاوز حدودك! .